إن الحوكمة الرشيدة أساس نجاح المؤسسات والأحزاب والحركات الناجحة في العالم، وإن أي عمل تطغى عليه العشوائية مصيره الاضمحلال.
يزداد التعثر والفشل الإداري والتنظيمي في المناطق المحررة شمال سورية مع ترسيخ حالة ما دون المؤسسة وحالة السلطات المتنازعة، لاسيما على مستوى العمل بالمؤسسات وبالأخص المؤسسة العسكرية، إن النظم الإدارية التي تعد العمود الفقري لكل المؤسسات والأحزاب والحركات الناجحة في العالم مفقودة تماماً في الشمال المحرر؛ مما طغى عليه العشوائية وهذا مصيره الاضمحلال كما رأينا ونرى ونأمل تداركه قبل فوات الأوان.
المؤسسة العسكرية مازالت دون مستوى عمل المؤسسات المهنية العسكرية والأمر الذي نعيشه اليوم لم يعد مقبولًا خصوصاً مع استمرار حالة الفوضى، بل وازديادها رغم مرور إحدى عشرة سنة من عمر الثورة، وبات تعزيز حالة الحوكمة والمؤسسات من أولى الضروريات لإنهاء حالة التنازع والشقاق التي أصبحت أبرز سمة يعاني منها سكان المناطق المحررة وهي عدم الشعور بالأمن والأمان، وهذا الاقتتال الأخير يظهر حالة غياب المؤسسة وتنازع السلطات.
إن غيابَ المؤسسة الواحدة التي تدير المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والتي نسميها اصطلاحاً (محررة) ووجود إدارتين وقوى عسكرية متناثرة هذا يؤسس لخلاف مستقبلي لا تحمد عواقبه، ويؤدي إلى تشتت الطاقات والفوضى، ونشوء سلطات متعددة ومؤسسات مشرذمة تؤدي كل منها جزءا من المطلوب بحسب إدارتها ومواردها الذاتية، مما يؤدي إلى استهلاك واستنزاف كبير لجميع الطاقات مقابل نتاج قليل ولاسيما في المجالات الخدمية، واستمرار الوضع بهذا الشكل لدرجة أنه أصبح ريف غرب حلب يتبع لحكومة وريف شمال حلب أي يخضع لحكومة أخرى!!
والحقيقة أن الذي أوجد حالة الفوضى هو فرض قوى أمر الواقع تلك الصورة دون دفع سوري أو أصدقاء الشعب السوري لإصلاح هذه الحالة، وهذا لا يؤسس لحالة صحيحة وسليمة بظل التحديات الكثيرة أمام القضية السورية، ولا حتى على تلك القوى التي ستبقى مهددة بالفناء، كما أن الموارد المادية في المناطق المحررة وهي شحيحة أصلاً بعمومها وتقسمت بين نفوذ القوى العسكرية المسيطرة، والمؤسسات المدنية ولم تحصل حالة استثمار منظمة تعود بالفائدة العامة على المناطق التي هي خارج سيطرة النظام، إذ شهدنا تراجع الموارد بكل أشكالها وتراجع الزراعة والصناعة حتى البسيطة، وضعفت المؤسسات المدنية والخدمية، وكان ذلك نتيجة حتمية لغياب المؤسسة الواحدة والجسم الواحد الذي يدير القدرات والموارد بشكل تنموي يعود بالنفع على الناس وتحولنا اليوم لحالة استهلاك دون نمو وإنتاج يُذكر، وهذا كان سببه الرئيسي تعدد السلطات واختلافها فيما بينها.
كما أن تدخل الفصائل العسكرية في المؤسسات المدنية للمناطق المحررة له دورٌ كبير في إفشال كثير من التجارب الإدارية التي ظهرت فيها بوادر النجاح والأمل.
نحترم التضحيات العسكرية ونجلّها في الدفاع عن المدنيين لكن لا ينبغي أن تكرس تلك الحالة حالة السلطات المتعددة وتكرس ضعف المؤسسة العسكرية
إن التحديات والضروريات كثيرة والواقع يحتاج إلى جهود إصلاحية كبيرة أمام انسداد أفق الحل السياسي، وهذا يحتاج إلى خبرات إدارية تُحسن تشخيص الواقع كما تحسن التنبؤ وقراءة المستقبل، وتعرف كيف تستثمر الموارد المتاحة والاستثمار الأمثل لنتائج أفضل؛ والتخلص من حالة الدويلات المتوزعة في الأرياف على مستوى دوائر سلطات صغيرة حتى باتت مدينة إدلب والريف الغربي لحلب تتبع إلى سلطة مختلفة عن سلطة الريف الشمالي لحلب!!
نحن أمام واقع وواجبات كبيرة، ولا سِيّما بعد حالات التّهجير التي طالت كثيرين وأصبحت مدن القماش (الخيام) حالة مضى عليها سنين ويقطنها اليوم أكثر من مليون نازح بظل غياب سبل الحياة الأساسية وبات الجدار والسقف الإسمنتي حلماً لأكثر من مليون إنسان.!
ونحن لليوم بسلطات متعددة، فواجبنا اليوم تلافي كل أسباب الفشل الإداريِّ الذاتي، وما تزال أمامنا فرصٌ كثيرةٌ للاستفادة منها وإدارة المناطق بكل مواردها وتجميع كل الطاقات وتوظيفها وتقديم الخبرات، وهذا يسهل ويساعد حتى الدعم الدولي المقدم لتلك المنطقة أن يحقق فائدة مُثلى لكل الناس حيث يعيش في المناطق خارج سيطرة النظام والتي تسمى محررة أكثر من خمسة ملايين إنسان.
ويتوفر اليوم عدد من الكوادر التي اكتسبت خبراتٍ جيدةً طوال السنين الماضية، يمكن الاستفادة منها، وكذلك وجود أعداد من منظمات العمل المجتمعي الجيدة التي تحركت في هذه المساحات وعملت بحرفية لسنوات من أجل المجتمع.
لكن يبقى هذا مرهوناً بإصلاح إداري حقيقي وتعزيز دور المؤسسات بشكل فعلي
فهذا الواجب المتأخر جدًّا وهو حوكمة رشيدة واحدة، تستقطب الكفاءات وتشرف على كل النواحي الإدارية والتنظيمية وتضع استراتيجيات عملها.
بحيث نصل إلى إدارة المناطق المحررة بشكل صحيح وإعطاء نموذجٍ جيد لإدارة القطاعات الخدمية، والعمل على استقرار الأهالي وخدمتهم.
إن عدالة قضيتنا وحدها لا يكسبها القدرةَ على الاستمرار أو النجاح مالم تعالج ذاتها بشكل مستمر، إن غياب الإدارة يعني الفوضى دائمًا، والفوضى تعني الفشل، وقد تنجح قضية ما بالفوضى مرَّة واحدة بالصدفة، ولكن هذا النجاح لا يدوم بالتأكيد، وإذا غاب التخطيط فالبديل هو الارتجال والانفعال، وبظل عدم وجود حل سياسي قريب فكان لزاماً العمل على الخلاص من الفوضى وتعزيز حوكمة رشيدة ومؤسسات فاعلة ناجحة واحدة تشعر الناس بالأمن والأمان وتسير عجلة الحياة ويقف التنازع والشقاق ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.