يُطلق عليه عدة ألقاب الشيخ، الأستاذ، الحاج زكريا بن محمد ملاحفجي الحسيني نسباً، ورث عن والده (الطب العربي) حيث كان والده طبيب حلب مطلع القرن العشرين وكتب عنه الكثيرون وكان يلقب بالشيخ القصير( أبو قبقابة) والذي اشتهر بالطب العربي أو ما يسمى اليوم الطب البديل وكانت نهاية تلك الحقبة من الطب وانتشار الطب بالشكل الأكاديمي المعروف، لكن بقي الطب البديل بشكله العلمي والمهني إلى اليوم، كما عمل السيد زكريا ملاحفجي في أغلب حياته مُحكِّماً شرعياً، في المحاكم الشرعية، وكان رجلاً ينهي أغلب قضاياه بالصلح بين الأزواج، وكان ذلك نتيجة حرصه على دوام الود وحفظ الأسرة، وبسبب تمتعه بذكاء اجتماعي عالي، فهو قادر أن يقرأ فيها تلك النفوس ومن ثم علاجها، فكما كان يعالج الجسد كان يعالج الروح، حيث كان رجلاً يجمع في شخصيته صفات كثيرة رائعة، صفات عربية أصيلة وإسلامية من الثقافة والشهامة والنجدة، والروح المرحة المبتسمة دوماً، ولا يمكن تجالسه إلا وتبتسم وتضحك، روحه لا تعرف الكآبة، رغم كل ظروف الحياة المتقلبة، كان معتزاً بنفسه واثق بها، حريصاً على سمعته ومكانة العائلة فيغار على مكانة العائلة ويغار على بلده كما يغار على نفسه، ويحترم أخوته الأكبر منه ويقبل يد أخيه الأكبر عند لقائه، كعادة القدماء ولا يرفع صوته بحضرة أخيه الأكبر، وكان رجلاً لا يعرف الادخار على الاطلاق، فالكرم جزء من شخصيته ولم أرَ له عدواً.
سكن في حي أقيول جانب باب الحديد حيث تجمع العائلة منذ مئات السنين وحي أقيول كان التوسع لحلب القديمة، وكان حيًا راقيًا قديمًا مصمم بطريقة جميلة وهادئة بشوارع مرصوفة بالحجارة والبيوت العربية المتلاصقة المزروعة كلها، ولا يوجد بيت إلا وفيه بئر ماء وأشجار سواء الدالية (العنب) أو الياسمين أو الكباد أو الليون.
وهذا البيت يحوي مضافة كبيرة يسمونها (القاعة) وأذكر كيف كان سقفها خشبي مرتفع وهو للضيوف والزوار ويحوي نوافذ بشكل مقنطر وأرفف للمكتبات داخل الجدار.
بالنسبة لنا كأطفال العائلة كانت المضافة أول مكان نتلقى فيه التعليم والآداب من استقبال الضيف وإكرامه والإنصات إليه، وكانت المضافة تعج بالمثقفين والسياسيين من شخصيات وأعيان حلب وكذلك الفنانين بشكل أسبوعي، فكانت المضافة لنقاش القضايا الاجتماعية والوطنية والسياسية.
ومن الفنانين عرفت بتلك المضافة أحمد أزرق والمعصراني وحسن حفار وأحمد شكري وغيرهم. فكانت هذه الجلسات ثروة ثقافية وفنية ودروس عملية في الآداب، نتلقاها قبل الانتقال للمدرسة، وكان الحاج زكريا مدرسة بذاته فلا تخلو لحظة إلا وفيها فائدة أو تجربة أو قصة أو نصيحة أو قيمة إسلامية أخلاقية، كما كان نموذجًا عمليًا بحاله وسلوكه، فلا يمكن أن ترى بوجوده إلا عبق الحب والود، عندما مرضت زوجته الحاجة فخرية شهيد وفقدت بصرها، كان هو الذي يرعاها ولا تقبل غيره يرعاها من أبنائه، وبنفس مُحبة فلا يعرف الضجر أو السآمة، فأم يحيى كما يكنّها سيدة حياته وحبه الذي عاش معه وبقلبه حتى آخر حياته، ويوم فقدانها كان يوماً عظيماً عليه حيث رحلت قبله بعدة سنين.
كان له ستة أحفاد يحملون اسمه ويفخرون بذلك، وكنت أنا الثاني أحمل اسمه، وكان لهم حظوة إضافية عنده. رحل الحاج زكريا في مثل هذا اليوم في 25 أيلول 2002 عن عمر قارب السبعين، وبقيت ذكراه منتشرة في حلب وغيرها، وترك بصمات وذكرى طيبة وبقيت تلك الدار إلى اليوم شامخة رغم كل ما مرّ ويمر على سورية .
هذه القامات الطيبة النادرة كانت تعتز بانتمائها العربي والهاشمي والإسلامي، وذو طبيعة مسالمة محبوبة ودودة مع الجميع، كم نحتاج تلك الروح في هذا الزمن ممن يسعى لحفظ الود وصون الأسرة وعلاج أجساد الناس وأرواحهم، لبناء وطن نظيف بنظافة هؤلاء الأشخاص.