تُرى هل ستصبح المآسي الإنسانية عُرضة للمفاوضات والمشاريع السياسية في المنطقة؟ وهل إن (البروبوغاندا) الإعلامية التي يتم ضخها عن السوريين صحيحة؟
وهل يفرّ المرء من بيته وأرضه إلا بحثاً عن حياة، أو فراراً من الموت والقتل والهدم، وقد أصبحت أرضه ساحة لخمسة جيوش من أقوى الجيوش في العالم، ومسلسل الدم الذي لم يتوقف منذ عشر سنوات يسفك بالسوريين فلا يمر أي يوم إلا ونجد هناك شهداء ومعتقلين، إذا كان الوقت من ذهب فوقت السوريين من دم.
لقد تحول مكان المواجهات الدولية إلى الساحة السورية كأبرز ساحة صراع، ولم يسعَ المجتمع الدولي يوماً إلى حل المشكلة وإنهاء الصراع بل يقوم كل طرف دولي باستثمار الصراع لصالح حساباته في المنطقة ككل. وكل المنطقة ضمن حسابات المصالح الدولية. في حين يتضاءل التفكير في مصلحة السوريين، وحسب مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة، فإن أكبر نسبة لجوء هي للسوريين في هذا القرن بسبب حرب مشتعلة لم تتوقف ولم تعد بين طرفين هم نظام وشعب أراد حياة كالحياة فقط، بل ساحة تصفية الحسابات الدولية للآخرين على أرض السوريين منذ السنة الثانية من المواجهة إلى اليوم.
لم يكن الشعب السوري بتاريخه كشعب، عالة على الآخرين بل شعب معطاء في الجد والعمل والسعي والكسب وفي أوقات بعض الرخاء والحريات نافس الأوربيين في الصناعات النسيجية عندما كان النسيج متربعًا عرش الصناعات، واستقبل السوريون الكثير من الشعوب المهاجرة خلال الحرب العالمية الأولى والثانية وتضامنوا في الحرب العالمية الثانية حتى مع الشعوب البعيدة، فخرج الشعب للشارع يوم ضربت هيروشيما بالنووي في ذاك الوقت، ولم يتردد الشعب السوري لحظة في كل قضايا المظلومين حتى أصبح هو نفسه من هؤلاء المظلومين في هذا العالم الذي ينام اليوم بلامبالاته وبثقله وأدواته العسكرية على أجساد وجراح هؤلاء الضعفاء، كما لم يتردد هذا الشعب لحظة بالوقوف في أي محنة حلّت بالبلد الذي أقاموا فيه في محنتهم سواء في تركيا أو لبنان أو الأردن أو سواه، فالمظلوم هو أول من يستشعر معنى الظلم والنكبة والخطر ولذلك وقف السوريون على ساق واحدة ليلة الانقلاب الغاشم في تركيا، وفرحوا لفشله واحتفلوا مع أشقائهم، لأن حياة الأمان نعمة افتقدها هؤلاء وحكم الجنرالات العسكرية نقمة يعرفها من عاشها جيداً لاسيما وسورية تعيشه منذ أكثر من نصف قرن بحكم الانقلاب الذي دُفعت ضريبته دم منذ الانقلاب الذي قام به الأسد الأب إلى اليوم، وكذلك يوم تعرض الليرة التركية فسارعوا بمبادرات انتشرت إعلامياً عبر رجال أعمال سوريين استبدلوا العملة الأجنبية بعملة تركية، وبات النظام يهاجم الشريحة من السوريين التي نقلت أموالها ومصانعها وقدراتها لبلد جار آمن شعر هؤلاء بفرصة ليكون يد بناء وعطاء لشعب تركيا، حيث أقل ما يقال فيه أنه يتمتع بإنسانية كبيرة في المنطقة طالما هو يفكر بشعوره الإنساني بعيدًا عن المساومات والبربوغاندا السياسية، وآخر روح أخوية كانت عبر المسارعة للتضامن المادي والمساهمة مع المشروع الذي أطلقته مديرية الغابات لتعويض الضرر الحاصل من الحريق فكانت حملة سورية تضامنية أخوية سجلها الإعلام بنفس توقيت البربوغاندا التي يتم ضخها ضد السوريين.
تمتع السوريون بالجد والاجتهاد ليتوالى سلم التفوق والتحصيل العلمي للطلبة، وبحكم أن التجارة هي في جينات هؤلاء تاريخياً فتحولوا إلى رسل تجارة بين الأوساط العربية بينها وبين التركية والأوربية، ليفتحوا أسواقاً وطرائق تسويقية للتجارة لاسيما بامتلاك لغتين اللغة الأم واللغة الجارة ورغبة عارمة بالجد والعمل، ورغم سعي بعض الأطراف لشيطنة حال اللاجئين إلا أن وعي الشعوب حال دون نجاح الشيطنة، هذا الشعب الذي يحوي طاقات باتت مشردة من علماء وأكاديميين ورواد فضاء وأعداد كبيرة من المختصين إضافة لليد العاملة وهي طاقة بشرية بحد ذاتها تحتاج لعقول ذكية تستفيد وتستثمر تلك الطاقة وليس إحباطها وتبديدها، الجغرافيا والصراع تفرض علينا حق الجوار وتفرضنا على بعضنا فهي جغرافيا أبدية لا تتغير، لكننا كعقلاء ينبغي أن نفكر كيف سنعيش في تلك الجغرافيا وننافس معاً ونتغلب على كل التحديات التي تهدد المنطقة وليس أحد بمنأى عن المؤامرات والكيد الذي نتعرض له كشعوب في منطقة الشرق الأوسط وليس فقط السوريين رغم أن ساحة المواجهة الدولية هي ساحتهم، والتي نأمل أن تكون آخر ساحة مواجهة في المنطقة فآن لأبناء المنطقة ككل أن ينعموا بالأمن والسلام والنهوض، فالحرائق التي لم تنطفئ منذ مئة عام آن لها أن تئيد، فهذه منطقة حضارات وأديان ومناطق رئيسة في العالم ولم تكن هامشية، سواء في مراحل النهوض أو حتى التراجع، والمستقبل لهذه الشعوب إن أدركت كيف ستعيش معاً ولم تسمح لمن يفسد بين تلك الشعوب التي لها تاريخ طويل ومن له رصيد عريق في الماضي، سيكون له الرصيد من المستقبل بكل تأكيد.
د- زكريا ملاحفجي
كاتب سوري