نقرأ ونسمع ونتابع كل يوم لسيل من الغث والسمين في تدفق المعلومات، لتيارات فكرية كثيرة حداثية أو من حُقب التاريخ الآفلة، فتكاد تصبح هذه التيارات والتي تتشظى وتتناقض في داخلها أحياناً، والتي تتحول إلى أداة ضغط علينا بدلاً من أن تكون قيمة إضافية ورصيد لنا، فكل تيار يسعى ليخلق منا “رجلاً أحادي الأبعاد” كما ذكر المفكر الألماني – الأميركي ماركيوزي في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه والذي انتقد فيه الرأسمالية في ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة، ووصفها بأنها خلقت نوعاً من الفكر الأحادي بدعم من الآلات الإعلامية والسياسية والتعليمية والاستهلاكية المدببة والموجهة لحماية الرأسمالية ونظامها.
وهنا نتساءل: لماذا تضعنا هذه التيارات الفكرية في صراع بين هويتنا وتاريخنا وبين الحاضر والمستقبل، لماذا هذا الاستقطاب النكد الذي أصبح السمة الرئيسية اليوم ما بين مدعي الحداثة والذي يسعى لاستنساخ تجارب من هنا وهناك ولا يؤمن إلا بقيمها وآلياتها، بوصفها الملاذ الأخير لأي تقدم، وما بين متشدد ديني دفن رأسه في كتب التراث ويرى التشبث المطلق بفهم عقول أجداده للنص، وأنها الوسيلة الوحيدة للنهوض رافضاً كل أنواع الفكر الآخر، وفريق آخر يرى أن العقل هو السيد ولا وجه للدين من الإعراب في الحياة.
فهل كُتب علينا أن نعيش حالة الاستقطاب الأحادية هذه، خصوصاً أن كل طرف لا يقبل بغير السيطرة التامة لهذا التوجه الأحادي العنيف؟ فالكل يسعى لجعل كل منّا في النهاية “رجلاً أحادي الأبعاد” في قالب فكري من صناعته، وهو ما يتناقض مع الطبيعة البشرية، والبشر لم يخلقوا في الهواء هكذا فهم شربوا سنيناً من أرض ثقافتهم وقيمهم، فإذا ما أردت الصواب والمضي بالنجاح فلا يمكن أن تضع عراقيل ذاتية مما شربته أفكارهم وتتحول الناس إلى حالة دفاع حذر وهذا يؤدي إلى ردات فعل يمكن أن يتوقعها أي عاقل يفهم الطبيعة البشرية، لابد من التصالح والتوازن والمنطقية ما بين الأصالة والحداثة وخلق حالة من الانسجام الفكري والمنطقي ليسير مركب النهوض في طريق سلس بلا معوقات نصنعها بالمنطق الأحادي، فما كان لدول كثيرة نهضت إلا وهي تتعامل بلطف وعناية مع الأصالة مستخدمة الحداثة بما ينفعها.
بتقديري إن الحتمية الحقيقية للتاريخ البشري وسلوكيات المجتمعات هي أنها تكون في السواد الأعظم ناتجة عن فكر، وأن الفكر ينتج عنه السلوك والفعل ثم النتائج، والفكر عملية جدلية ممتدة ومتطورة مع وجود ثوابت يجب عدم إنكارها، خصوصاً بالنسبة للمعتقدات، ولعله ليس من المبالغة في شيء التأكيد على وجود جدل أو «صراع» بين الأفكار على مر التاريخ، ولا أتوقع أن يختلف ذلك في المستقبل، ومن ثم تكون أهمية إقرار وسيلة الحوار للوصول إلى الفكر المنشود.
وحتى لو ترسخت لدى الناس قناعات وأفكار خاطئة فالصواب هو “الانتقال السلمي” للأفكار الصحيحة ولأفكار النهوض ولابد من التوازن والانسجام بين الأصالة والحداثة لكل مجتمع والإنسان ابن بيئته.
سياسة حرق الكتب فشلت تماماً، فلم تحافظ في أوروبا على وحدة الكنيسة الكاثوليكية كما سعت، ولم تمحُ من الوجود فكر ابن رشد أو تقضي على عقلانية المعتزلة، والشيء نفسه بالنسبة لتصفية المفكرين أنفسِهم، لأنها تجعل منهم شهداء فكر، فيضفي ذلك قدسية على فكرهم حتى لو كان تحت مستوى العقل أو الشبهات، فالمنطق والحكمة هي سفينة النجاة في عالم الأفكار والقبول بالآخر فنحن لم نختر من يعيش معنا لكننا معنيين باختيار كيف سنعيش معاً.
د- زكريا ملاحفجي
كاتب سوري