من يصنع التغيير هل هي النخب أم الشعوب، الثورات عادة وفي أغلب مناطق العالم تفجرها وتصنعها الأقلية العددية من الشعوب ولا تحتاج إلى ملايين الناس ولا إلى حواضن عريضة بل إلى أفراد يؤمنون بها، والشعوب هي من تحتاج إلى هؤلاء الناس الذين يصنعون التغيير، لأن هذه القلة العددية تكرّمهم وتأخذهم إلى المستقبل والحرية والعدالة والكرامة والتنمية.
هذه القلة العددية يوجهها ذوي المعرفة والوعي السياسي والعسكري والاستراتيجي، القادرين على بناء تحالفات ويملكون القدرة على المفاوضات، كما يملكون الجرأة في القول والعمل، فهم يوجهون هذه الشعوب وليس العكس، وهم ليسوا مضطرين (كما يحصل اليوم لدى البعض) ليُصَادق عليهم من قبل أهل (الفيس بوك) ووسائل التواصل الاجتماعي في مسارهم السياسي.!
لو اتبع السياسيون عواطف العامة لن يصلوا إلى شيء، فالعامة تعرف “ما لا تريد” أكثر من معرفتها “ماذا تريد” وكيفية الوصول إلى ما تريد، فهذا يحتاج أهل الفن في قدرتهم ومهارتهم، والثورة ليست قصة درامية طويلة، الثورة “حدث” يقع وينتهي الأمر.
وتتوالى من بعده التطورات والمسارات هذه هي الثورات.
يسأل الكثيرون: أين هي الثورة اليوم؟ وهو سؤال مشروع، الثورة ليست فعلاً مضارعاً مستمراً، هي حدثت وانتهى الأمر، وما تبقى علينا هو إكمال ما طالبت به.
والسياسة هي فن الكسب وليست فن الخسارة، وهي ليست فن الممكن، فالممكن لا يصنع تغييراً، بل هي الوصول وتحقيق غير الممكن، والسياسة ليست عملاً انتهازيًا خالياً من المبادئ والقيم، ولا يمكن لإنسان أن يبتعد عن تأثير السياسة فهي تنعكس عليه وعلى أولاده، والتغيير هو انعطاف تاريخي سياسي اجتماعي يحتاج جرأة لدى النخب في التوجيه والتجميع على ما يصب في مصلحة الشعوب، ولهذا كانت المناشدات السياسية التي تخاطب الجماهير لتجمعهم على الأفكار وتوجههم نحو ما يحقق أهدافهم، وكل عظماء التغيير ورواد التغيير من التوجهات السياسية والاجتماعية وغيرها كانوا يمتلكون خطابًا بليغًا يلامس قلوب الجماهير، فتحمل العاطفة والمنطق والأداء، وهذه أدوات مهمة للتأثير في عملية التغيير، بدونها يهيم العامة وتأخذهم كل صيحة من هنا وهناك.
يتميز الخطاب السياسي بأنه خطاب يقوم على عملية الاقناع للجهة الموجه لها الخطاب، بالإضافة إلى تلقي القبول والاقناع بمصداقية، ويجب أن يوظف الخطاب السياسي الوسائل اللغوية والمنطقية الصحيحة، وجمل تعبيرية تتناسب مع طريقة التواصل مع الأفراد والحدث، وكذلك لغة الجسد فهي أيضاً مهمة للغاية.
إن مخاطبة الناس فيها احترام كبير لقدرهم ولعقولهم فهم يسمعون ويطّلعون، وهذا يشعرهم بالتقدير والمشاركة، فضلاً عن التوجيه والتجميع.
أي مجتمع مهما صغر يحوي مذاهب فكرية وعرقية وتفاوت في الآراء وبلا رسائل تجميع وتوجيه تضيع الناس، والنخب لها الدور الأساس في التغيير، وتحتل دراسة النخبة أهمية كبيرة في إطار موضوعات علم الاجتماع السياسي، وذلك لأهمية ما تملكه النخبة من أدوات مؤثرة في تكوين واستقرار المجتمعات وتشكيل نسق الحكم والفكر والتوجيه، لهذا فإن أغلب مصائب المجتمعات في نخبها، وفي حالة الثورات تكمن الفرص الكبيرة للنخب السياسية في التغيير، فهي تكون خارج السلطة والسيطرة، فالنخب هم القدوة وهم مصدر الالهام للشعوب، لكن تحتاج قدرة وخبرة وأمانة وتعزيز الثقة ليحصل التجميع والتوجيه والتغيير المنشود، فلا تغيير بلا نخب واعية ترشد وتجمع، ولا نخب سياسية بلا خطابات سياسية وأفعال سياسية تقرن القول بالعمل.
د. زكريا ملاحفجي
كاتب وباحث سوري